فصل: تفسير الآيات رقم (68 - 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68 - 69‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ‏}‏

أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم‏.‏ ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق عليهم، ولو أنهم ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم، كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ‏}‏ ما هذه البقرة‏؟‏ وأي شيء صفتها‏؟‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا أبو كريب، حدثنا عثام بن علي، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم‏.‏ إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن ابن عباس‏.‏ وكذا قال عبيدة، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وأبو العالية وغير واحد‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ قال ‏[‏لي‏]‏ عطاء‏:‏ لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شددوا على أنفسهم شدد الله عليهم؛ وايم الله لو أنهم لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الأبد‏"‏‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ‏}‏ أي‏:‏ لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل، كما قاله أبو العالية، والسدي، ومجاهد، وعكرمة، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني ووهب بن منبه، والضحاك، والحسن، وقتادة، وقاله ابن عباس أيضًا‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس ‏{‏عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ ‏[‏يقول‏:‏ نصف‏]‏ بين الكبيرة والصغيرة، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون‏.‏ وروي عن عكرمة، ومجاهد، وأبي العالية، والربيع بن أنس، وعطاء الخراساني، والضحاك نحو ذلك‏.‏ وقال السدي‏:‏ العوان‏:‏ النصف التي بين ذلك التي ولدت، وولد ولدها‏.‏

وقال هشيم، عن جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في البقرة‏:‏ كانت بقرة وحشية‏.‏

وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس‏:‏ من لبس نعلا صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ‏}‏ وكذا قال مجاهد، ووهب بن منبه أنها كانت صفراء‏.‏

وعن ابن عمر‏:‏ كانت صفراء الظلف‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ كانت صفراء القرن والظلف‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثنا نوح بن قيس، أنبأنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ قال‏:‏ سوداء شديدة السواد‏.‏ وهذا غريب، والصحيح الأول، ولهذا أكد صفرتها بأنه ‏{‏فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ وقال عطية العوفي‏:‏ ‏{‏فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ تكاد تسود من صفرتها‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ قال‏:‏ صافية اللون‏.‏ وروى عن أبي العالية، والربيع بن أنس، والسدي، والحسن، وقتادة نحوه‏.‏ وقال شريك، عن مَغْراء عن ابن عمر‏:‏ ‏{‏فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ قال‏:‏ صاف‏.‏

وقال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَاقِعٌ لَوْنُهَا‏}‏ شديدة الصفرة، تكاد من صفرتها تبيض‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏تَسُرُّ النَّاظِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ تعجب الناظرين وكذا قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس‏.‏

‏[‏وفي التوراة‏:‏ أنها كانت حمراء، فلعل هذا خطأ في التعريب أو كما قال الأول‏:‏ إنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد، والله أعلم‏]‏‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ إذا نظرت إلى جلدها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70 - 71‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ لكثرتها، فميز لنا هذه البقرة وصفها وحِلَّها لنا ‏{‏وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏}‏ إذا بينتها لنا ‏{‏لَمُهْتَدُونَ‏}‏ إليها‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي، حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد، حدثنا سرور بن المغيرة الواسطي، ابن أخي منصور بن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لولا أن بني إسرائيل قالوا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ‏}‏ لما أعطوا، ولكن استثنوا‏"‏‏.‏

ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر، عن سرور بن المغيرة، عن زاذان، عن عباد بن منصور، عن الحسن، عن حديث أبي رافع، عن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لولا أن بني إسرائيل قالوا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ما أعطوا أبدًا، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوا لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا، فشدد الله عليهم‏"‏‏.‏ وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة، كما تقدم مثله عن السدي، والله أعلم‏.‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ‏}‏ أي‏:‏ إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية، بل هي مكرمة حسنة صبيحة ‏{‏مُسَلَّمَةٌ‏}‏ صحيحة لا عيب فيها ‏{‏لا شِيَةَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ ليس فيها لون غير لونها‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة ‏{‏مُسَلَّمَةٌ‏}‏ يقول‏:‏ لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد ‏{‏مُسَلَّمَةٌ‏}‏ من الشية‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ ‏{‏مُسَلَّمَةٌ‏}‏ القوائم والخلق ‏{‏لا شِيَةَ فِيهَا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا بياض ولا سواد‏.‏ وقال أبو العالية والربيع، والحسن وقتادة‏:‏ ليس فيها بياض‏.‏ وقال عطاء الخراساني‏:‏ ‏{‏لا شِيَةَ فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ لونها واحد بهيم‏.‏ وروي عن عطية العوفي، ووهب بن منبه، وإسماعيل بن أبي خالد، نحو ذلك‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏لا شِيَةَ فِيهَا‏}‏ من بياض ولا سواد ولا حمرة، وكل هذه الأقوال متقاربة ‏[‏في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ‏}‏ ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال‏:‏ ‏{‏تُثِيرُ الأرْضَ‏}‏ أي‏:‏ يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره‏]‏ ‏{‏قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ‏}‏ قال قتادة‏:‏ الآن بَيَّنْتَ لنا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ وقبل ذلك -والله -قد جاءهم الحق‏.‏

‏{‏فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ قال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ كادوا ألا يفعلوا، ولم يكن ذلك الذي أرادوا، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها‏.‏

يعني أنَّهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة، والأجوبة، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت، فلهذا ما كادوا يذبحونها‏.‏ وقال محمد بن كعب، ومحمد بن قيس‏:‏ ‏{‏فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ لكثرة ثمنها‏.‏

وفي هذا نظر؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل، كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس‏.‏ وقال عبيدة، ومجاهد، ووهب بن منبه، وأبو العالية، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ إنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك‏.‏ وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا ابن عيينة، أخبرني محمد بن سوقة، عن عكرمة، قال‏:‏ ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير وهذا إسناد جيد عن عكرمة، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه‏.‏

ولم يسنده عن أحد، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها، وللفضيحة‏.‏ وفي هذا نظر، بل الصواب -والله أعلم- ما تقدم من رواية الضحاك، عن ابن عباس، على ما وجهناه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

مسألة‏:‏ استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها‏"‏‏.‏ وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون‏:‏ لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله، وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72 - 73‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏

قال البخاري‏:‏ ‏{‏فَادَّارَأْتُمْ‏}‏ اختلفتم‏.‏ وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي حذيفة، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا‏}‏ اختلفتم‏.‏

وقال عطاء الخراساني، والضحاك‏:‏ اختصمتم فيها‏.‏ وقال ابن جريج ‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا‏}‏ قال‏:‏ قال بعضهم أنتم قتلتموه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بل أنتم قتلتموه‏.‏ وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ما تُغَيبُون‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عمرو بن مسلم البصري، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي، حدثنا صدقة بن رستم، سمعت المسيب بن رافع يقول‏:‏ ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله، وتصديق ذلك في كلام الله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا‏}‏ هذا البعض أيُّ شيء كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به‏.‏

وخرق العادة به كائن، وقد كان معينا في نفس الأمر، فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا، ولكن أبهمه، ولم يجئ من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله‏.‏

ولهذا قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عفَّان بن مسلم، حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ إن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له، وكانت بقرة تعجبه، قال‏:‏ فجعلوا يعطونه بها فيأبى، حتى أعطوه ملء مَسْكها دنانير، فذبحوها، فضربوه -يعني القتيل- بعضو منها، فقام تَشْخُب أوداجه دمًا ‏[‏فسألوه‏]‏ فقالوا له‏:‏ من قتلك‏؟‏ قال‏:‏ قتلني فلان‏.‏

وكذا قال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ إنه ضرب ببعضها‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس‏:‏ إنهم ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أنبأنا مَعْمَر، قال‏:‏ قال أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة‏:‏ ضربوا القتيل ببعض لحمها‏.‏ وقال معمر‏:‏ قال قتادة‏:‏ فضربوه بلحم فخذها فعاش، فقال‏:‏ قتلني فلان‏.‏

وقال أبو أسامة، عن النضر بن عربي، عن عكرمة‏:‏ ‏{‏فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا‏}‏ ‏[‏قال‏]‏ فضرب بفخذها فقام، فقال‏:‏ قتلني فلان‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن مجاهد، وقتادة، نحو ذلك‏.‏ وقال السدي‏:‏ فضربوه بالبَضْعة التي بين الكتفين فعاش، فسألوه، فقال‏:‏ قتلني ابن أخي‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ أمرهم موسى، عليه السلام، أن يأخذوا عظمًا من عظامها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ فضربوه ببعض آرابها ‏[‏وقيل‏:‏ بلسانها، وقيل‏:‏ بعجب ذنبها‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى‏}‏ أي‏:‏ فضربوه فحيى‏.‏ ونَبَّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل‏:‏ جعل تبارك وتعالى ذلك الصنع حجة لهم على المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والفساد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة ما خلقه في إحياء الموتى، في خمسة مواضع‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وهذه القصة، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم والطيور الأربعة‏.‏

ونبه تعالى بإحياء الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما، كما قال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا شعبة، أخبرني يعلى بن عطاء، قال‏:‏ سمعت وَكِيع بن عُدُس، يحدث عن أبي رَزِين العُقَيلي، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أما مررت بواد مُمْحِل، ثم مررت به خَضِرًا‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏كذلك النشور‏"‏‏.‏ أو قال‏:‏ ‏"‏كذلك يحيي الله الموتى‏"‏‏.‏ وشاهد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُون لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏33-35‏]‏‏.‏

مسألة‏:‏

استدل لمذهب مالك في كون قول الجريح‏:‏ فلان قتلني لوثًا بهذه القصة؛ لأن القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال‏:‏ قتلني فلان، فكان ذلك مقبولا منه؛ لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق، ولا يتهم والحالة هذه، ورجحوا ذلك بحديث أنس‏:‏ أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بين حجرين فقيل‏:‏ من فعل بك هذا‏؟‏ أفلان‏؟‏ أفلان‏؟‏ حتى ذكر اليهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي، فلم يزل به حتى اعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد رأسه بين حجرين وعند مالك‏:‏ إذا كان لوثًا حلف أولياء القتيل قسامة، وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏

يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى، وإحيائه الموتى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ كله ‏{‏فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ‏}‏ التي لا تلين أبدًا‏.‏ ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وقال العوفي، في تفسيره، عن ابن عباس‏:‏ لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط، فقيل له‏:‏ من قتلك‏؟‏ فقال‏:‏ بنو أخي قتلوني‏.‏ ثم قبض‏.‏ فقال بنو أخيه حين قبض‏:‏ والله ما قتلناه، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا‏.‏ فقال الله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ بني أخي الشيخ ‏{‏فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، وإن لم يكن جاريا، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله، وفيه إدراك لذلك بحسبه، كما قال‏:‏ ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه كان يقول‏:‏ كل حجر يتفجر منه الماء، أو يتشقق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، لمن خشية الله، نزل بذلك القرآن‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا تدعون إليه من الحق ‏{‏وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏وقال أبو علي الجبائي في تفسيره‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ هو سقوط البرد من السحاب‏.‏ قال القاضي الباقلاني‏:‏ وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل، والله أعلم‏]‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي، حدثني يحيى بن أبي طالب -يعني يحيى بن يعقوب- في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ‏}‏ قال‏:‏ هو كثرة البكاء ‏{‏وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ‏}‏ قال‏:‏ قليل البكاء ‏{‏وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ بكاء القلب، من غير دموع العين‏.‏

وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ‏}‏ قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة‏:‏ ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا‏}‏ الآية، وقال‏:‏ ‏{‏وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ‏}‏ و‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ‏}‏ الآية، ‏{‏قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏{‏لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ‏}‏ الآية، ‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ‏}‏ الآية، وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏هذا جبل يحبنا ونحبه‏"‏، وكحنين الجذع المتواتر خبره، وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏"‏إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن‏"‏ وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة، وغير ذلك مما في معناه‏.‏ وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير؛ أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين‏.‏ وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر‏:‏ إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا، وهو يعلم أيهما أكل، وقال آخر‏:‏ إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا؛ أي لا يخرج عن واحد منهما؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين‏.‏ والله أعلم‏.‏

تنبيه‏:‏

اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ بعد الإجماع على استحالة كونها للشك، فقال بعضهم‏:‏ ‏"‏أو‏"‏ هاهنا بمعنى الواو، تقديره‏:‏ فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏، وكما قال النابغة الذبياني‏:‏

قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا *** إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ

تريد‏:‏ ونصفه، قاله ابن جرير‏.‏ وقال جرير بن عطية‏:‏

نال الخِلافَةَ أو كانت له قدرًا *** كما أتى ربَّه مُوسى على قَدَرِ

قال ابن جرير‏:‏ يعني نال الخلافة، وكانت له قدرًا‏.‏

وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو‏:‏ أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب، كقول القائل‏:‏ أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل‏:‏ أكلي حلو أو حامض، أي‏:‏ لا يخرج عن واحد منهما، أي‏:‏ وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ ‏"‏أو‏"‏ هاهنا بمعنى بل، تقديره فهي كالحجارة بل أشد قسوة، وكقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏‏{‏وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 147‏]‏‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 9‏]‏ وقال آخرون‏:‏ معنى ذلك ‏{‏فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ عندكم‏.‏ حكاه ابن جرير‏.‏

وقال آخرون‏:‏ المراد بذلك الإبهام على المخاطب، كما قال أبو الأسود‏:‏

أحبّ محمدًا حُبا شديدًا *** وعبَّاسا وحمزةَ والوصيا

فإن يك حُبّهم رشدا أصبه *** ولست بمخطئ إن كان غيّا

قال ابن جرير‏:‏ قالوا‏:‏ ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من سَمَّى رَشَدٌ، ولكنه أبهم على من خاطبه، قال‏:‏ وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له‏:‏ شككت‏؟‏ فقال‏:‏ كلا والله‏.‏ ثم انتزع بقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ فقال‏:‏ أوَ كان شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال‏؟‏

وقال بعضهم‏:‏ معنى ذلك‏:‏ فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ومعنى ذلك على هذا التأويل‏:‏ فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشد قسوة من الحجارة‏.‏ وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ مع قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏، الآية أي‏:‏ إن منهم من هو هكذا، ومنهم من هو هكذا، والله أعلم‏.‏

قال الحافظ أبو بكر بن مردويه‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، حدثنا علي بن حفص، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي‏"‏‏.‏ رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج، صاحب الإمام أحمد، به‏.‏ ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب، به، وقال‏:‏ غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم‏.‏ ‏[‏وروى البزار عن أنس مرفوعا‏:‏ ‏"‏أربع من الشقاء‏:‏ جمود العين، وقسي القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا‏"‏‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75 - 77‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ينقاد لكم بالطاعة، هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود، الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ‏}‏ أي‏:‏ يتأولونه على غير تأويله ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ‏}‏ أي‏:‏ فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله‏؟‏ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ثم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم‏:‏ ‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ‏}‏ وليس قوله‏:‏ ‏{‏يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ‏}‏ يسمعون التوراة‏.‏ كلهم قد سمعها‏.‏ ولكن الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها‏.‏

قال محمد بن إسحاق‏:‏ فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا لموسى‏:‏ يا موسى، قد حيل بيننا وبين رؤية الله تعالى، فأسمعنا كلامه حين يكلمك‏.‏ فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى فقال‏:‏ نعم، مُرْهم فليتطهروا، وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا، ثم خرج بهم حتى أتوا الطور، فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى أن يسجدوا، فوقعوا سجودًا، وكلمه ربه تعالى، فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم، حتى عقلوا عنه ما سمعوا‏.‏ ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل، فلما جاءوهم حَرَّف فريق منهم ما أمرهم به، وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل‏:‏ إن الله قد أمركم بكذا وكذا‏.‏ قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله‏:‏ إنما قال كذا وكذا خلافًا لما قال الله عز وجل لهم، فهم الذين عنى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ‏}‏ قال‏:‏ هي التوراة، حرفوها‏.‏ وهذا الذي ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق، وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق‏.‏ فإنه ليس يلزم من سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران، عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 6‏]‏، أي‏:‏ مبلَّغًا إليه؛ ولهذا قال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الذين يحرفونه والذين يكتمونه هم العلماء منهم‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم، من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوه عن مواضعه‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي أنهم أذنبوا‏.‏ وقال ابن وهب‏:‏ قال ابن زيد في قوله‏:‏ ‏{‏يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ‏}‏ قال‏:‏ التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حرامًا، والحرام فيها حلالا والحق فيها باطلا والباطل فيها حقًا؛ إذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله، وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له ذلك الكتاب، فهو فيه محق، وإن جاءهم أحد يسألهم شيئًا ليس فيه حق، ولا رشوة، ولا شيء، أمروه بالحق، فقال الله لهم‏:‏ ‏{‏أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا‏}‏ الآية‏.‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثنا محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا‏}‏ أي بصاحبكم رسول الله، ولكنه إليكم خاصة‏.‏ ‏{‏وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا‏}‏ لا تحدثوا العرب بهذا، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم، فكان منهم‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تقرون بأنه نبي، وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر، ونجد في كتابنا‏.‏ اجحدوه ولا تقروا به‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ آمنا‏.‏

وقال السدي‏:‏ هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا‏.‏ وكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة وغير واحد من السلف والخلف، حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فيما رواه ابن وهب عنه‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال‏:‏ ‏"‏لا يدخلن علينا قصبة المدينة إلا مؤمن‏"‏‏.‏ فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق‏:‏ اذهبوا فقولوا‏:‏ آمنا، واكفروا إذا رجعتم إلينا، فكانوا يأتون المدينة بالبُكَر، ويرجعون إليهم بعد العصر‏.‏ وقرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72‏]‏ وكانوا يقولون، إذا دخلوا المدينة‏:‏ نحن مسلمون‏.‏ ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره‏.‏ فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر‏.‏ فلما أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون‏.‏ وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون‏:‏ أليس قد قال الله لكم كذا وكذا‏؟‏ فيقولون‏:‏ بلى‏.‏ فإذا رجعوا إلى قومهم ‏[‏يعني الرؤساء‏]‏ قالوا‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بما أنزل الله عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ‏}‏ قال‏:‏ كانوا يقولون‏:‏ سيكون نبي‏.‏ فخلا بعضهم ببعض فقالوا‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

قول آخر في المراد بالفتح‏:‏ قال ابن جُرَيج‏:‏ حدثني القاسم بن أبي بَزَّة، عن مجاهد، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم، فقال‏:‏ ‏"‏يا إخوان القردة والخنازير، ويا عبدة الطاغوت‏"‏، فقالوا‏:‏ من أخبر بهذا الأمر محمدًا‏؟‏ ما خرج هذا القول إلا منكم ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ بما حكم الله، للفتح، ليكون لهم حجة عليكم‏.‏ قال ابن جريج، عن مجاهد‏:‏ هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدًا صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ من العذاب ‏{‏لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ‏}‏ هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا وكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عُذِّبوا به‏.‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ من العذاب، ليقولوا‏:‏ نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ ‏{‏أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بما قضى ‏[‏الله‏]‏ لكم وعليكم‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ هؤلاء اليهود، كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا‏:‏ آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قال بعضهم‏:‏ لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم، فيحاجوكم به عند ربكم، فيخصموكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به، وهو يجدونه مكتوبًا عندهم‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ‏}‏ قال‏:‏ كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم، خشيةَ أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ آمنا‏.‏ وكذا قال أبو العالية، والربيع، وقتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78 - 79‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ‏}‏ أي‏:‏ ومن أهل الكتاب، قاله مجاهد‏:‏ والأميون جمع أمي، وهو‏:‏ الرجل الذي لا يحسن الكتابة، قاله أبو العالية، والربيع، وقتادة، وإبراهيم النَّخَعي، وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ‏[‏إِلا أَمَانِيَّ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ لا يدرون ما فيه‏.‏ ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمي؛ لأنه لم يكن يحسن الكتابة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا‏"‏ الحديث‏.‏ أي‏:‏ لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب وقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ نسبت العرب من لا يكتب ولا يَخُط من الرجال إلى أمِّه في جهله بالكتاب دون أبيه، قال‏:‏ وقد روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما قول خلاف هذا، وهو ما حدثنا به أبو كُرَيب‏:‏ حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ‏}‏ قال‏:‏ الأميون قوم لم يصدِّقوا رسولا أرسله الله، ولا كتابًا أنزله الله، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثم قالوا لقوم سَفلة جُهَّال‏:‏ ‏{‏هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ وقال‏:‏ قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم، ثم سماهم أميين، لجحودهم كتب الله ورسله‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ وهذا التأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم‏.‏ وذلك أن الأمي عند العرب‏:‏ الذي لا يكتب‏.‏

قلت‏:‏ ثم في صحة هذا عن ابن عباس، بهذا الإسناد، نظر‏.‏ والله أعلم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا أَمَانِيَّ‏}‏ قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِلا أَمَانِيَّ‏}‏ إلا أحاديث‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس، في قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَمَانِيَّ‏}‏ يقول‏:‏ إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبًا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إلا كذبًا‏.‏ وقال سنيد، عن حجاج، عن ابن جريج عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ‏}‏ قال‏:‏ أنَاس من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله، ويقولون‏:‏ هو من الكتاب، أمانيّ يتمنونها‏.‏ وعن الحسن البصري، نحوه‏.‏ وقال أبو العالية، والربيع وقتادة‏:‏ ‏{‏إِلا أَمَانِيَّ‏}‏ يتمنون على الله ما ليس لهم‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏إِلا أَمَانِيَّ‏}‏ قال‏:‏ تمنوا فقالوا‏:‏ نحن من أهل الكتاب‏.‏ وليسوا منهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد‏:‏ إن الأميين الذين وصفهم الله أنهم لا يفقهون من الكتاب -الذي أنزل الله على موسى -شيئًا، ولكنهم يَتَخَرَّصُون الكذب ويتخرصون الأباطيل كذبًا وزورًا‏.‏ والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه‏.‏ ومنه الخبر المروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ما تغنيت ولا تمنيت‏"‏‏.‏ يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ‏}‏ ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوتك بالظن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ‏}‏ يكذبون‏.‏

وقال قتادة‏:‏ وأبو العالية، والربيع‏:‏ يظنون الظنون بغير الحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ الآية‏:‏ هؤلاء صنف آخر من اليهود، وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله، وأكل أموال الناس بالباطل‏.‏

والويل‏:‏ الهلاك والدمار، وهي كلمة مشهورة في اللغة‏.‏ وقال سفيان الثوري، عن زياد بن فياض‏:‏ سمعت أبا عياض يقول‏:‏ ويل‏:‏ صديد في أصل جهنم‏.‏

وقال عطاء بن يسار‏.‏ الويل‏:‏ واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏ويل واد في جهنم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره‏"‏‏.‏

ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن دراج، به‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة‏.‏

قلت‏:‏ لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكن الآفة ممن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد -مرفوعًا- منكر، والله أعلم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا المثنى، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح العشيري حدثنا علي بن جرير، عن حماد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفر، عن كنانة العدوي، عن عثمان بن عفان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏الويل جبل في النار‏.‏ وهو الذي أنزل في اليهود؛ لأنهم حَرَّفوا التوراة، زادوا فيها ما أحبوا، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة‏.‏ ولذلك غضب الله عليهم، فرفع بعض التوراة، فقال‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

وهذا غريب أيضا جدًا‏.‏

‏[‏وعن ابن عباس‏:‏ الويل‏:‏ السعير من العذاب، وقال الخليل بن أحمد‏:‏ الويل‏:‏ شدة الشر، وقال سيبويه‏:‏ ويل‏:‏ لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها، وقال الأصمعي‏:‏ الويل‏:‏ تفجع والويل ترحم، وقال غيره‏:‏ الويل الحزن‏.‏ وقال الخليل‏:‏ وفي معنى ويل‏:‏ ويح وويش وويه وويك وويب، ومنهم من فرق بينها، وقال بعض النحاة‏:‏ إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة؛ لأن فيها معنى الدعاء، ومنهم من جوز نصبها، بمعنى‏:‏ ألزمهم ويلا‏.‏ قلت‏:‏ لكن لم يقرأ بذلك أحد‏]‏‏.‏

وعن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ هم أحبار اليهود‏.‏ وكذا قال سعيد، عن قتادة‏:‏ هم اليهود‏.‏

وقال سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن علقمة‏:‏ سألت ابن عباس عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في المشركين وأهل الكتاب‏.‏ وقال السدي‏:‏ كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله، ليأخذوا به ثمنًا قليلا‏.‏

وقال الزهري‏:‏ أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه، أحدث أخبار الله تقرؤونه محضًا لم يشب‏؟‏ وقد حَدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا‏:‏ هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا؛ أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مُسَاءلتهم‏؟‏ ولا والله ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم‏.‏ رواه البخاري من طرق عن الزهري‏.‏ وقال الحسن بن أبي الحسن البصري‏:‏ الثمن القليل‏:‏ الدنيا بحذافيرها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان، والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، كما قال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ فالعذاب عليهم، من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، ‏{‏وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏}‏ يقول‏:‏ مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم‏.‏